آه يا دِمنة… في زمنٍ نعيش فيه، من ذا الذي يجرؤ أن يصفع السلطان بكلمة؟ من ذا الذي يستطيع أن يرفع صوته في وجه من نصّب نفسه حامينا، فإذا به أول من ينهشنا؟ كنا نظنّه منقذًا، فإذا به يُلقي بنا في هاوية الخوف.
ألم ترَ يا دِمنة كيف يتصرّف السلطان؟ يجلس على عرشٍ مزيّن بالذهب، يكسوه المجد الظاهر وتنهشه الرذيلة الباطنة. حوله حاشية من المتملّقين، لا يقولون له إلا ما يحب، ولا يقدّمون له إلا ما يُسكر سمعه من مديحٍ كاذب. أما الناصح الأمين، فإن اقترب احترقت يداه، وإن تكلم قُطعت أنفاسه، وإن صمت مات كمداً. هكذا يُعامل الحق يا دِمنة، يُكتم كما يُكتم الطائر في قفصٍ من حديد.
أما ترى يا دِمنة كيف يفرض السلطان صمته على الجميع؟ يُكثر من الضرائب حتى يرهق الفقير، ويزيد من عطاياه حتى يُفسد الغني. يأمر بقطع الرؤوس ليُرهب القلوب، ويستعمل الدين ستارًا يُغطي به ظلمه، فإذا اعترض أحدهم قالوا: خرج عن الطاعة وخان الجماعة.
فما الحل يا صديقي؟
الحل يا كليلة هو المقاومة، هو الصوت، هو القلم، هو رفض الاستبداد بكل أشكاله. لنثأر ضد السلطان، لنقف في وجه كيانه وعدوانه، ولنعلن رفضنا لكل ظلم يمارسه على الرعية.
أجننتِ يا دمنة! أتريد أن نُشنق وتُعلّق رؤوسنا، وأن تُستعرض في ساحات المدينة مثالًا لكل من حاول الاعتراض على من لا يُعترض عليه؟ أن يسود الرعب، ويتسرب الخوف من العقاب في كل زقاق وبيت، حتى يختنق الشعب بأكمله؟
وما الحل إذا ؟
الرمز
الرمز…؟
نعم ، الخطاب الرمزي هو سلاحنا، وملاذنا الآمن. سنروي حكايات، وننشر أدبًا يبدو وكأنه كتب للتسلية والترفيه، لكن بين طياته رموز وعبر تكشف فساد السلطة، وتفضح ظلم الحاكم. سنلقي دروس المقاومة ورفض الاستبداد بخفة وسلاسة، بطريقة لا يلحظها أحد في بلاط السلطان.
وحتى لو حاول بعضهم كشفنا، فلن يجدوا دليلًا يثبت جريمتنا على أوراق تبدو بريئة، وكلمات تبدو بريئة، لكنها تحمل الحقيقة بين السطور.
كليلة ودمنة: من الحكاية الهندية إلى الأدب العربي
تعود جذور حكايات كليلة ودمنة إلى مخطوطات البانشاتانترا، التي يتكون اسمها من كلمتين: "بانش" بمعنى خمسة و"تانترا" بمعنى كتاب.
البانشاتانترا هي مجموعة قديمة من حكايات الحيوانات والأمثال تتألف من خمسة كتب، وتنسب تقليديًا إلى فيشنوشارما، وهو كاتب هندي براهمي (عضو في الطبقة الأولى في الهند) من منطقة كشمير. يعتقد المؤرخون أنه كتبها في القرن الثاني قبل الميلاد بناءً على طلب راجا ( راجا هو لقب ملكي أو نبيل في اللغة السنسكريتية القديمة يشير إلى حاكم في الهند وجنوب شرق آسيا وإندونيسيا. وقد يعني هذا اللقب في بعض السياقات ملكًا أو حاكمًا، وفي سياقات أخرى أميرًا أو نبيلًا ذا مرتبة عالية، حسب السياق المحلي )
كانت هذه الحكايات مشهورة جدًا وانتشرت بسرعة – كتابيا وشفهيًا – إلى الدول الآسيوية على طول طرق الحجاج البوذيين. بالإضافة إلى شرق آسيا، انتشرت هذه المجموعة أيضًا إلى الإمبراطورية الفارسية الثانية منذ القرن السادس، عندما طلب الخسرو الأول، إمبراطور الساسانيين، بعد سماعه مدائح هذه المجموعة، من طبيب فارسي يُدعى برزويه ترجمتها من السنسكريتية إلى الفهلوية (اللغة الفارسية الوسطى). ولسوء الحظ، فقد ضاعت هذه النسخة المهمة.
ثم قام العالم ابن المقفع بترجمة البانشاتانترا من الفهلوية إلى العربية في القرن الثامن. وقد غيّر عنوانه وأضاف عدة فصول، حتى وُلِد العمل الشهير المعروف اليوم باسم كليلة ودمنة.
أصبح هذا العمل مشهورًا جدًا في العالم الإسلامي وما وراءه. ومن القرن العاشر حتى القرن الرابع عشر، كانت ترجماته إلى الإسبانية القديمة، واليونانية، واللاتينية، والكنسية السلافية القديمة، والألمانية، والعبرية، والتركية، ولغات أخرى غالبًا ما تتم برعاية وإشراف البلاطات الملكية.
مع مرور الوقت، ألهمت هذه المجموعة من القصص غيرها من القصص الإطارية التي تضع الحكايات ضمن قصة أكبر تحيط بكل منها ، مثل الديكاميرون لبوتشاتشيو في القرن الرابع عشر، وحكايات كانتربري لتشوسر في القرن الرابع عشر، وكذلك التراث الشفهي الأفريقي الأمريكي الخاص بـ Bre’er Rabbit، وغيرها من الأعمال.
القصة التي تؤطر هذه الحكايات تحكي عن زيارة شخصية تُدعى بيدباي، وهو فيلسوف، إلى بلاط الملك دابشاليم. يطلب الملك من الفيلسوف أن يروي له أمثالاً ذات عبرة أخلاقية. والحكايات المتشابكة التي يرويها بيدباي للملك هي ما يشكل كليلة ودمنة.
أما الحكايات نفسها فيرويها ابني أوى اللذان يحملان اسمي الكتاب، كليلة ودمنة، اللذان يعملان في بلاط ملك الحيوانات، بانكالا، الأسد. يروي كل من كليلة ودمنة خمس عشرة قصة عن مغامراتهما العديدة مع الحيوانات الأخرى المتشخصنة، والتي تحمل عبرًا ودروسًا أخلاقية وسلوكية.
يمكن قراءة هذه الحكايات والقصص بطرق مختلفة، ورغم أننا أحيانًا نشعر أنها لا تتناول مواقف حقيقية نظرًا لطبيعتها الرمزية، إلا أنها في الواقع مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسياقاتها الاجتماعية والسياسية، وبالجوانب الإنسانية العالمية والخالدة.
خلفيات النسخة العربية لكليلة و دمنة
إذا قرأنا حكايات نسخة ابن المقفع من كليلة ودمنة، سنلاحظ صراعًا خفيًا ومستمرًا بين أفكار كل من كليلة ودمنة.
فـكليلة يتميز بالهدوء، والطاعة، والحذر من السلطة، ويبحث دائمًا عن حلول وسط لإرضاء جميع الأطراف والحفاظ على الاستقرار. بينما يتميز دمنة بالجرأة، والشجاعة، والمكر، والدهاء، ويسعى لفرض أفكاره دون حساب للعواقب، متحديًا القيود ومخاطراً بالمستقبل.
يمكن اعتبار هذا الصراع السياسي الرمزي انعكاسًا لما عاشه ابن المقفع بنفسه ككاتب ومربٍ لأبناء السلاطين خلال فترة حكم دولتين متتاليتين: الأمويون ثم العباسيون. فقد حاول ابن المقفع أن يوازن بين ولائه للبلاط وحرصه على سلامته الشخصية و أفكاره، فكتب بطريقة مسلية وذكية لتعليم النبلاء والأمراء وفق تعاليم الخلفاء، وفي الوقت نفسه حاول أن يكبت جرأته في التعبير عن الحقيقة، وأن يفضح ما كان خفيًا من دكتاتورية السلطة خلف ستائر القصر.
لكن، كما نرى في حكاياته، لم تدم محاولة السيطرة على الكلمات والأفكار. فالجرأة الفكرية لابن المقفع أفلتت من قيوده، وانعكست على حياته الشخصية، فأصبح مستهدفًا من قبل الدولة العباسية التي رأت في استقلاليته وجرأته تهديدًا لمصالحها. يروى أن سبب النقمة عليه كان كتابًا كتبه للمنصور اسمه "رسالة الصحابة"، تضمن نقدًا شديدًا لنظام الحكم وسياسة العباسيين، وهو ما اعتبره المنصور وقاحة لا تُغتفر. وانتهى به المطاف ضحية لمكائد البلاط، حيث قُتل بطريقة بشعة، تشبه إلى حد كبير النهايات الحزينة التي عاشتها الحيوانات في قصصه تحت سلطة الأسد، وهو رمز الملكية المطلقة والسلطة القمعية.
تختلف الروايات حول طريقة وفاته و لكن لهدف إشباع فضول القارئ كما أشبعت فضولي إليكم أبرز الروايات :
رواية السجن والحرق:
يُقال إن والي البصرة آنذاك (سفيان بن معاوية) قبض عليه بأمر من المنصور، فقطع أعضاءه شيئًا فشيئًا، ثم وضعه في تنور حار حتى احترق جسده.رواية التقطيع:
بعض المصادر تذكر أنه قُطعت أوصاله أمام الناس، ابتداءً من يديه وقدميه ثم بقية جسده، وهو حيّ، في واحدة من أبشع صور التعذيب، وكان ذلك عبرة لكل من يفكر في معارضة الدولة.المهم أن ما أود إيصاله هو أنّ كليلة ودمنة ليست مجرد مجموعة من الحكايات المليئة بالعِبر والتسلية العابرة، بل هي عمل يحمل في طياته أبعادًا أعمق بكثير.
أكثر ما أثار انتباهي هو تلك الطريقة الرمزية المبطّنة التي استخدمها كل من الكاتب الاصلي و ابن المقفع لنشر أفكارهم السياسية والفكرية بخفة وذكاء، متخفّيًين وراء شخصيات الحيوانات وحواراتها. هذه الرمزية لم تكن مجرد حيلة أدبية، بل محاولة للبوح بما لا يمكن قوله علنًا.
إن هذا الأسلوب الرمزي يُشكّل انعطافة حقيقية في الأدب العربي والإسلامي أيضا ؛ إذ خالف النمط السائد آنذاك، حيث كان الأدب في معظمه يُكتب تحت إمرة الحاكم وبما يرضي البلاط. في المقابل، جاء ابن المقفع بخطاب مختلف، خطاب يخاطب العقل والخيال معًا، ويُخفي نقد السلطة خلف قناع الحكمة والموعظة.
وما يزيد الحكايات روعة أنها فتحت الباب لولادة أدب قصصي جديد قائم على الحيلة الرمزية والسرد المتداخل، وهو ما سنجده لاحقًا في أعمال أخرى خالدة مثل ألف ليلة وليلة، حيث تجلت شخصية شهرزاد كساردة قادرة على المراوغة بالكلمة، تنسج حكاياتها لتؤجل موتها وتكشف بذكاء تناقضات السلطة والمجتمع.
ماذا تعلمنا حكايات الأسد والثور والثعلب إذن ؟
لنسأل كليلة ودمنة، ربما يعرفان الجواب.
- لقد رأيت في هذه الغابة ما لا يُدرك بالعين وحدها، بل بما يُفكر فيه القلب ويستشعره العقل. فالنظر إلى الأمور من ظاهرها فقط خادع، ومن لم يغص في أعماق المعاني فقد ضل الطريق، وفاته فهم الحكمة التي تختبئ بين الأشجار والصخور، بين صرخات الأسد وهمس الرياح.
- نعم يا كليلة، فكم من حيوان رضِي أن يملأ فمه من طعام السلطان أو يزغرد للملك ليحظى بمكانة، لكنه بذلك فقد ذاته وضاع في دهاليز الغابة. أما من يستمع للهمسات بين الأغصان، ويقرأ ما بين السطور، فهو وحده من يعرف قيمة الشجاعة، وصدق الموقف، ووفاء العهد، وهو وحده من يدرك أن الحرية الحقيقية تكمن في الفهم لا في الخضوع. تعلموا من أصغر المخلوقات وأكثرها ضعفًا، فهي تحمل في كلماتها وحكاياتها أعظم الدروس.
فكل حكاية فيها عبرة وعظة : أن تسأل ولا تكتفي بما يُفرض عليك، أن تتأمل قبل أن تحكم، وأن لا ترضى بظلم سلطان أو قوة، بل أن تحيا بعقل نير وضمير حي.
حكايات كليلة ودمنة مرآة للحياة، وعبرة لكل من يعيش في غابتنا الكبرى التي نسميها العالم، حيث القوة بلا حكمة لا تدوم، والمكر بلا ضمير لا يثمر، والصدق في البحث عن المعنى هو ما يجعل القلوب عاقلة، والعالم أكثر عدلاً، والحياة أكثر رحمة وفهمًا لكل من يسعى للحق. فالحكاية ليست مجرد تسلية، بل نافذة على الحكمة ومرشدًا لمن يريد أن يرى ما وراء الظاهر، ويدرك أن كل صوت وكل حركة تحمل درسًا ينتظر من يفهمه.
جميل