كوني مغربية الأصل والجنسية من كلا الأبوين، وأعيش على أرض هذا الوطن الجميل الذي تقاسم مع جيرانه في المغرب العربي سنواتٍ طويلة من انتهاك حرمة الأرض والإنسان، وسُلبت منه حرية العيش كبلد مستقل على أيدي المستعمر الأجنبي، فقد نشأتُ على حكايات الألم والتعذيب والدمار، كما نشأت على قصص البطولة والمقاومة ورفض المذلة مهما كان الثمن.
تلك القصص لم تكن مجرد روايات تُحكى، بل تحولت إلى جزءٍ من كياني؛ جزء يقدّس الحرية والكرامة والهوية، ويرفض بكل الأشكال أي اعتداء على خصوصية الشعوب وحقوقها. وأحمد الله أن عهد الاستعمار قد مضى ولن يعود بإذن الله.
لكن شغفي دفعني لاكتشاف أعمق لِمَا عاشه أجدادي وربما أجدادك أيضاً. تجاوزتُ الحكايات الدموية التي يعرفها أغلبنا من تعذيب وقتل وقمع، لأتأمل في ما هو أخطر: فلسفة الاستعمار .
الفلسفة التي بُنيت على أمر بسيط ، محو كل ما هو " هم “ و زرع كل ما هو “ نحن “.
هذه الاستراتيجية، يا عزيزتي ويا عزيزي القارئ، كانت ولا تزال من أخطر أسلحة السيطرة؛ لأن الإنسان حين ينسى هويته، ينسى قضيته. و حين ينسى قضيته ، وينسى ما كان يناضل من أجله أساسا.
ولأن الحاجة إلى الانتماء متأصلة في النفس، سرعان ما يتبنى الهوية الجديدة التي تُقدَّم له : إما ملفوفة بشعارات الحداثة والتقدم، أو مفروضة بالقمع والتخويف. وفي هذا الانصهار الطوعي، يحقق المستعمر مبتغاه، فيسيطر على عقول وقلوب الشعوب، ربما في بعض الاحيان بلا دماء، بلا معارك، فقط بإستعمال سحر النسيان والتقليد.
قد تظن أن هذا زمنٌ ولّى، غير أنني اكتشفت أنني ما زلت أعيش وسط استعمار خفي، ناعم، يتسلل عبر البروباغندا والإعلام، استعمار لا نكاد نلحظه… حتى نحن الذين ننتقد الاستعمار القديم ونصرخ بآثاره. إنه استعمار يغيّر شكلَه كل مرة، يخلع بزته العسكرية ويرتدي بدلة أنيقة، يتحدث بلغة الحرية والانفتاح، ويبيع لنا أوهام الحداثة والنجاح. لكنه في العمق لا يفعل سوى أن يستمر في فرض هيمنته، ليس على أرضنا هذه المرة، بل على عقولنا وأذواقنا وأحلامنا.
لقد صار يوجّهنا في أبسط تفاصيل حياتنا: في اللغة التي نكتب بها، في الأزياء التي نرتديها، في الموسيقى التي نسمعها، وحتى في الطريقة التي نقيس بها قيمة أنفسنا. كل ذلك ونحن نتصور أننا أحرار، بينما الحقيقة أننا نعيد إنتاج ما زرعه المستعمر فينا منذ عقود.
ومن هنا، وجدت أن من واجبي أن أتوقف لحظة لأحكم بعيني الناقدة على الجوانب التي لا زلنا، حتى اليوم في سجن غير مرئي نقيم فيه طوعاً دون أن ندرك.
لغتنا أم لغاتهم ؟
تعلّم اللغات لا يُنتقد أبداً؛ فكل لغة جديدة نتعرّف عليها ،هي باب آخر يفتح لنا على العالم. اللغات أشبه بجوازات سفر وتذاكر عبور، تسمح لنا بالتواصل مع الآخر، فهمه، تبادل المعارف معه، وإيصال أفكارنا إلى أبعد مدى ممكن.
لكن الخطأ ليس في التعلّم، بل في المقايضة: أن نبيع لغتنا الأم بلغة الآخر بثمن بخس، هو ثمن الوهم بالاعتراف بنا كأشخاص "راقين" و"حديثين". وهذا في الحقيقة ليس إلا فخاً لا معنى له. كيف لإنسان أن يتوقف عن التحدث بلغته الأم، بدعوى أنها متخلفة أو "سوقية"، ثم يتباهى بلغة شعب آخر لأنها أكثر رُقياً وحداثة؟
بهذا السلوك، ينسى الإنسان تاريخه، ويُطمس تاريخ لغته الغني بالحضارة والمعرفة، والمُشبَع بأصوات المقاومة والنضال ضد التخلف والجهل. فاللغة لم تكن يوماً مجرد أداة للتواصل، بل كانت مرآة لوعي أمة، وذاكرة جماعية تحفظ قصصها، أمثالها، حكمتها، وأحلامها. وعندما يتخلى الإنسان عن لغته الأم بدعوى الرقي، فإنه لا يفقد الكلمات فقط، بل يفقد روحه التي تجسدت في تلك اللغة عبر قرون طويلة.
و من بين أغرب ما يؤمن به هذا الشخص “ الرقي “ المتخلف هو ان مفهوم العولمة أيضا يختزل إلى مجرّد التحدث بلغة المستعمر، وكأن أبواب المستقبل لا تُفتح إلا بلسان الآخر. بينما الحقيقة أن العولمة لم تُبنَ يوماً على الذوبان في ثقافة واحدة، بل على التعدد و التنوع، على اللقاء الخلّاق بين الهويات المختلفة، وعلى التعايش دون أن نفقد جوهرنا الأصيل. فالعولمة الحقيقية هي أن ألتقيك بلغتك وتلقاني بلغتي، دون أن يُطلب مني أن أذوب فيك أو أن أتنكّر لما أنت عليه.
إن فقدان اللغة ليس فقداناً للأصوات فحسب، بل هو انهيار لبيت كامل من المعاني، وسقوط لركن أساسي من الهوية. وعندما نُقايض لغتنا بلغة الآخر، فإننا نسلم له آخر خط دفاع عن ذواتنا: الدفاع عن حقنا في أن نكون نحن، كما نحن.
تحدث، اكتب، عبّر بأي لغة تشاء؛ فلن أنكر متعة التواصل مع الآخر، وقوة القدرة على التعبير رغم اختلاف الجغرافيا والثقافات. لكن ما لا أستطيع تقبّله هو التهميش المتعمّد للغتنا ولهجاتنا الجميلة، تلك التي خرجت من رحم التاريخ، وحملت قصص أجدادنا، وشكّلت هويتنا كما نحن اليوم. هذه اللغات يجب أن تظل حيّة، مسموعة ومكتوبة… إلى أن نزول نحن من هذا العالم.
هوسنا بمشاريع الغرب
فقد أصبحنا زبائن أوفياء لاستعمار أنيق، نذهب إليه طائعين لا مكرهين، نحمل بطاقاتنا البنكية ونقف في طوابير طويلة أمام مطاعمه ومتاجره كأنها معابد مقدّسة. ونركض وراءه بأموالنا القليلة وكأنها صكوك غفران. نلتهم "ماكدونالدز" بشهية عجيبة، ثم نقنع أنفسنا أننا نعيش تجربة "عالمية"، بينما مطعم صغير عند زاوية الشارع يقدم نفس البرغر وربما ألذ، لكننا نتجاهله لأنه لا يملك شعاراً لامعاً . ودعوني لا أخوض في موضوع المقاطعة ولا أذكّركم بغزة، فالقضية أوضح من أن تُشرح. أنتم تعرفون جيداً أن ما تسمّونه "حداثة" و"تقدماً" ليس سوى وقودٍ للأسلحة نفسها التي تمزّق أجساد آلاف الأطفال هناك. لا حاجة أن أذكّركم، فأنتم أدرى بما يفعله ضميركم. لنترك هذا الموضوع لمقال أخر.
المضحك أننا نكاد نحتفل بكل "فرع جديد" لسلسلة أجنبية كأنه فتح مبين، بينما لا نكلف أنفسنا حتى عناء ذكر أو دعم مشروع محلي ناشئ يعرق صاحبه ليل نهار. كأن القهوة لا تُصبح "قهوة" إلا إذا حملت اسم "ستاربكس"، والملابس لا تُصبح "موضة" إلا إذا نُقش عليها توقيع أجنبي، حتى لو كانت تُخاط بالخيط نفسه في مصانعنا المحلية.
الغريب أن مشاريعنا الصغيرة التي تناضل من أجل البقاء، مطاعم تطبخ بيد أصحابها، مقاهٍ تقدّم القهوة بنكهة حقيقية، متاجر تبتكر وتخيط وتصنع… كلها تُعامل كأنها مجرد ظلّ أو خيار بديل، بينما هي تحمل في طياتها روحنا وهوّيتنا. ولكننا، بعينٍ مبهورة، نُدير ظهرنا لها لأن شعاراتها ليست بالإنجليزية، ولأن منتجاتها لا تصاحبها حملات إعلانية هوليوودية.
نحن ببساطة لا نشتري الطعام أو القهوة أو الملابس… نحن نشتري الوهم المعلّب: وهم أن كل ما هو أجنبي أنظف، أرقى، وألذ. نستهلك "الصورة" أكثر من المذاق، و"العلامة" أكثر من الجودة.
النتيجة؟ نحن نمول شركات ضخمة لا تعرف أسماء مدننا ولا وجوهنا، بينما مشاريع شبابنا تموت عطشاً للدعم. المستعمر لم يعد يحتاج إلى دباباته، لأنه وجد فينا جنوداً أوفياء يقومون بالمهمة. إننا ببساطة مستعمَرون ذاتياً: نُطعم أعداءنا بينما نترك أحلامنا تموت جوعاً.
السؤال الذي أحاول إيجاد إجابة له هو :
لماذا ننتقد الاستعمار السياسي لكن نُقبل على الاستعمار الثقافي بأذرع مفتوحة؟
أظن انه لأننا نرى في الدبابات والجنود و الدماء خطرًا مباشرًا، بينما نعتبر أن الثقافة واللغة والموضة مجرد "اختيارات شخصية"؟
نعم، الجميع حر في اختياره. لكن الحرية الحقيقية العاقلة لا يمكن ان تكون في إختيار أن تُسلب هويتك منك بابتسامة، ولا أن تبيع لغتك وذاكرتك مقابل وهم الرقي والحداثة. الحرية الحقيقية تبدأ حين تدرك من أين أتيت، وما الذي تحمله معك من قصص وأصوات وألوان قبل أن تعانق ثقافة الآخر، وكأنها بطانية دافئة تمنحك الأمان، بينما هي في الواقع شبكة دقيقة تلتف حول روحك وتمتص جزءًا من ذاتك في كل مرة.
كم من مرة قبلنا أن تُكتب حياتنا بلغة لا نفهم جذورها، ونردد شعارات لم تصنع لنا، ونتبنى ذوقًا لم نختبره نحن؟ كم من أحلامنا الصغيرة وأفكارنا المشرقة ذهبت هباءً لأننا اعتقدنا أن ما هو أجنبي أكثر "حداثة" ورقيًا؟ الحرية ليست في اتباع الآخر، بل في أن نختار أن نلتقي به، أن نتعلم منه، أن نغني بلغته أو نكتب بها، لكن دون أن نفقد صوتنا، لوننا، روحنا، وجوهرنا الذي صنعنا نحن من أجله.
فلنحول اختياراتنا إلى وعي، لا استسلام. لنحافظ على لغتنا كجذرٍ يمدنا بالقوة، ولنحمل ثقافتنا كجسر يربطنا بالعالم دون أن نُمحى. ولتكن كل كلمة نتحدث بها، وكل زي نرتديه، وكل فكرة نكتبها شهادة على أننا نعيش بلا قيود، نختار بلا خوف، ونرفض أن نصبح نسخة باهتة مما فرض علينا، مهما بدا مغريًا. الحرية ليست شعارًا يُتغنى به، بل صراعٌ يومي لنكون نحن… فقط نحن.



حقيقة مقال رائع أحببته ، بارك الله فيك وفي مجهودك ابنت بلادي ❤️🔥.
أيضا ذكرت جملا كثيرة أثارت انتباهي لعل من بينها : " المضحك أننا نكاد نحتفل بكل "فرع جديد" لسلسلة أجنبية كأنه فتح مبين، بينما لا نكلف أنفسنا حتى عناء ذكر أو دعم مشروع محلي ناشئ يعرق صاحبه ليل نهار. كأن القهوة لا تُصبح "قهوة" إلا إذا حملت اسم "ستاربكس"، والملابس لا تُصبح "موضة" إلا إذا نُقش عليها توقيع أجنبي، حتى لو كانت تُخاط بالخيط نفسه في مصانعنا المحلية." هذا الموضوع كان دائما يستفزني ، نمجد العلامات التجارية ونفتخر بأن بلادنا أصبحت تتوفر على فرع لها غير أنه هنالك علامات أخرى تستحق الدعم نغفل عنها وهذا يضعف الابتكار الداخلي، وأيضا أشرت كثيرا على الاستعمار الثقافي أتذكر موقفا حدث لي في يوم من الأيام المدرسية ارتديت جلبابا مغربيا للمدرسة كمية التعليقات التي تعرضت لها ك : " واش اليوم جمعة ومفخبارناش" " تغالط ليك اليوم مع العيد" " واش معروضة لشي عراضة"..... أثارت تساؤلات داخلي ، كيف أصبح اللباس الذي يمثلنا ويمثل هويتنا محطا للأسئلة والاستفسارات ، وكيف ربطناه فقط بمناسبات معينة وعمر معين ومكان معين وغفلنا على أنه يبقى لباسنا ولباس أجدادنا ويمكننا لبسه في أي وقت وأي عمر مثل باقي الملابس
احب المغربين .